ذكرى المولد النبوي- صفاء النبع، وأخلاق النبوة
المؤلف: علي بن محمد الرباعي11.24.2025

إنَّ لشرفِ السلالةِ ارتباطاً وثيقاً بسموِّ الأخلاق، فالنسبُ الرفيعُ هو اختيارٌ ربانيٌّ، وهبةٌ جينيّةٌ، تسبقُ ما يترتّبُ عليها من عظمةِ المسؤولية، ونُبلِ المقصد، فاللهُ يصطفي من الملائكةِ رُسُلاً ومن سائرِ الناسِ، ومَن طاب أصلُه، حسُنتْ أفعالُه الظاهرة، ومَن زكتْ أخلاقه، طهرتْ سريرتُه وباطنه.
لكلِّ إنسانٍ أسرارٌ ومداخلُ خفيّة، إنْ كانَ ذا شخصيّةٍ معقّدة، ولكلِّ قضيّةٍ تحدّياتٌ وعقباتٌ، ما دامتْ من صنعِ البشر، إلّا شخصيّةَ محمدٍ بن عبداللهِ صلى الله عليه وسلم، وقضيّةَ النبوّةِ، فلا غموضَ ولا تعقيد، بل قمةُ الصفاءِ والبيان، وكأنَّ سيرةَ أشرفِ الخلقِ، والنبوّةَ تؤكدانِ على مرِّ الدهور، أنْ ليسَ هناكَ ما يختبئ.
في زمنٍ تكثرُ فيهِ مصاعبُ المسلمينَ من قِبَلِ الأحبابِ والأعداء على حدٍ سواء، تحلُّ ذكرى مولدِ خيرِ الأنامِ، وسيّدِ الخليقة، ولا يزالُ بعضُنا يضلُّ الطريقَ إلى منهلِ الصفاءِ، رغمَ قدرتنا على إقامةِ حوارٍ معرفيٍّ وحضاريٍّ بنّاء، مع الرسالةِ الخالدة، فهي حداثةٌ بالنظرِ إلى ما سبقها، ومعاصرةٌ بحكمِ زمنها، وأصالةٌ بالقياسِ إلى ما تبعَها، والانخراطُ في الحوارِ لا يعني الشكَّ في الرسالةِ والرسول، بل هو سعيٌ دؤوبٌ نحو الفهمِ العميقِ واستخلاصِ سبلِ النجاةِ ومخارجِ الأزمات، بدلاً من التسليمِ المطلقِ بما نُقلَ على ألسنةِ الرواة، ممّا يتعارضُ مع الوحيِ الصريحِ الجلي.
يجتمعُ ما يقاربُ المليارينِ من المسلمينَ، على رفعةِ قدرِ المصطفى ومكانتهِ العالية، الذي زكّى اللهُ قلبَه (ما كذب الفؤاد ما رأى)، وطهّر بصرَه (ما زاغ البصر وما طغى)، وصان لسانَه (وما ينطقُ عن الهوى)، وقدّس رسالته (إن هو إلا وحيٌّ يُوحى)، وشرّف واسطتَه (علّمه شديدُ القوى)، وعظّم خُلُقه (وإنّك لعلى خلق عظيم)، ورقّق مشاعره (حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)، ونقّى غاياته ومقاصدَه (لست عليهم بمسيطر)، فماذا يتبقى بعد هذا الكمال، سوى الاهتمام بالصفاتِ الحميدةِ والخصالِ النبيلة.
ليسَ المسلمُ الحقُّ، المنتسبُ لرسالةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، منقطعاً عن أمّتهِ، ولا منعزلاً عن إخوانِه، فالأمّةُ الإسلاميةُ جسدٌ واحد، ولكنّ الأيامَ كشفتْ لنا نوايا أولئك الذين يريدون تدمير الكلّ بتخريب الجزء، وتحطيم الكيانِ الكبيرِ بتفتيتِ الأوطان، فالإيمانُ عندما استقرَّ في قلوبِ أهلِ الجزيرةِ العربية، اشتدَّتْ عزيمتُهم، فاستقوى بهم كلُّ من تربطه جذورُ العروبةِ والإسلام بهم.
ذكرى ميلادِ النبيِّ الهادي، هي فرصةٌ سانحةٌ لمراجعةِ الذاتِ، وكبحِ جماحِ الشرِّ الكامنِ في نفوسِنا، وتهذيبِ سلوكِنا، وتجديدِ العهدِ بالرقيِّ والتقدمِ من خلالِ وطنِنا، الذي يحفزنا على أن نكونَ قدوةً حسنةً، وبشراً متحابين، ومبدعين ومنتجين، بدلاً من أن نكون مُستهلكين مُنغمسين في الشهواتِ والرغبات.
لم يُربِّ محمدُ بنُ عبداللهِ، عليهِ السلام، أصحابَه على رفعِ الراياتِ وترديدِ الشعاراتِ، وانتظارِ المكاسبِ والهباتِ، بل غرسَ فيهم حبَّ العملِ والإنجازِ، والإخلاصَ في الدعاءِ والابتهال، ولعلّنا ونحنُ ورثةُ لغتِه، نتساءلُ: ما الذي ينقصُنا لنثبتَ لأنفسِنا وللعالمِ أجمع أننا نحبُّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونقتفي أثرَه ونهتدي بهديه؟
منذُ بزوغِ فجرِ التاريخِ واللغة، كانت اللغةُ مدينةً ودائنةً في آنٍ واحد، لا سيما لغةُ الخطابِ الديني، فهي وسيلةٌ للإحياءِ والبناء، وفي الوقتِ ذاته، أداةٌ للقتلِ والدمار، وإذا كانت هناكَ نماذجُ تاريخيةٌ ارتقَتْ بالخطابِ الديني، وبأتباعِها، من خلالِ تفعيلِ وسيلةِ الإحياء، فهناك أيضاً جماعاتٌ انحدرتْ إلى الحضيضِ بتبنيها خطابَ الكراهية، الذي يرتكزُ على القتلِ والسبي والاستعباد والإبادة.
ليستِ الشريعةُ التي جاءَ بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (سُلطة) إلا بالمعنى المجازي، أو القضائي، بل هي عهدٌ وميثاقٌ وشهادةٌ كما وصفها القرآن الكريم (وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم)، وإذا وردَ في الأثرِ أنَّ (الملائكةَ تردُّ أقواماً عن الحوضِ، والنبيُّ عليهِ السلام يردد «أمتي أمتي» فتقولُ الملائكةُ: لا تدري ما أحدثوا بعدك)، فالإحداثُ ليسَ مقتصراً على معصيةٍ أو بدعةٍ مُغلّظةٍ أو تركِ سُنّةٍ مُختلفٍ في حكمِها، بل هو أيضاً استباحةُ دماءِ الأبرياءِ بتأويلٍ سائغٍ أو غيرِ سائغ، وإشعالُ الفتنِ في مجتمعٍ آمنٍ ومستقر، والتفريقُ بينَ الأهلِ والأحبة، والدعوةُ إلى عصيانِ ولاةِ الأمرِ والخروجِ عليهم، وهذا كلُّه نتاجُ التسلّطِ بالدينِ ظناً بأنه سُلطة، أو وسيلةٌ للوصولِ إلى السُّلطة، ولو تغاضينا عن هذا المصطلح، فالدِّينُ سُلطةٌ بالمحبةِ والإخاء، ولا يجوزُ عليهِ ولا منهُ أيُّ تسلّطٍ أو استغلال.
وإذا كان الدينُ (طيرٌ حرٌّ من اقتناه قنص به) فربما يصحُّ ذلك لفترةٍ محدودةٍ أو مدةٍ وجيزة، فالدولةُ الأقوى والأبقى هي التي تتبنى التحديثَ والتطوير، وتتخذُ من أحدثِ ما توصلَ إليه العلمُ والقانونُ والتحضر (نموذجاً) لتحصينِ نفسِها، في ظلِّ فهمٍ وإدراكٍ لأثرِ المصلحةِ وخطورةِ المفسدة، وبمراجعةِ السيرةِ النبويةِ الشريفة، نُدركُ النقلةَ النوعيةَ لرسالةِ الإسلامِ التي لم يستوعبها بعضُ أهلِ عصرِها، ففاتهم قطارُ الخيرِ والبركة.
لقد أشرقَ نورُ المصطفى عليهِ السلام، في زمنٍ كانَ أهلهُ بأمسِّ الحاجةِ إلى نبيٍّ يهديهم، وكانتِ القلوبُ متعطشةً إلى وحيٍ يُحييها، والمشاعرُ تتوقُ إلى التحررِ والانعتاقِ من قيودِ الجسدِ، والارتقاءِ بالروحِ إلى سماءِ الكمال، وكانَ المكانُ أجدبَ من ذاكرةٍ هرمة، وأفرغَ من فؤادِ أُمِّ موسى، فأنزلَ اللهُ الوحي، وحلّت بركةُ السماءِ على الأرض، وأعلى الله شأنَ مكانٍ وزمانٍ، كان الإنسانُ فيهما على وشكِ أن يفقدَ ما تبقى من إنسانيته، فاستعادَ ثقتَه بنفسِه، بهذا العطاءِ الإلهي، الذي أخرجهُ من ظلماتِ الجهلِ إلى نورِ المعرفة، ومن ضيقِ الشقاءِ إلى سعةِ الرخاء.
تبقى الذكرى مُذْكيةً لِشعلةِ الشوقِ والحنين، ولكنها وحدَها لن تعالجَ الأزمات، ولن تحلَّ المشكلات، ولن ترفعَ من مستوى الكفاءات، فالأزمةُ الحقيقيةُ تكمنُ في الوعي المتخلف، والمشاعرِ المظلمة، والأفكارِ المتصلّبة، ولا يمكنُ أن يبلغَ رسالةَ محمدٍ، ولا أن ينشرَ دينَه، إلا وطنٌ مستقرٌّ، ودولةٌ قويةٌ، ومجتمعٌ مقتدرٌ وخلوق، فاستجابةُ الآخرينَ لما نودُّ منهم أن يمثّلوه، مرهونةٌ بتمثّلِنا نحنُ لأخلاقِ النبوّةِ السامية وشمائلها الفاضلة.
لم يسلمْ مقامُ النبوةِ السامي وجنابُها الرفيع، من تطاولِ البعضِ على شخصِ الرسولِ الكريم، وعلى الكتابِ الذي جاءَ بهِ من عندِ الله، إلا أنَّ كلَّ ذلك، لم يزدهُ إلا رفعةً وعظمةً ومقاماً أعلى، فكيفَ لا وقد فتحتْ تلك الهجماتُ والاعتداءاتُ الأنظارَ على رسالتهِ السامية، وشدّت الانتباهَ إلى سيرتهِ العطرة، وأدخلتْ أمماً بأسرها في ركابِه ومعيّتهِ، فكم نحنُ محظوظونَ بأننا من أُمّتهِ المباركة.
لن يبلغَ المسلمُ مهما اجتهدَ في عبادتهِ، وإخلاصهِ، وتقواه، جزءاً يسيراً ممّا وصلَ إليهِ النبيُّ عليهِ السلام، ولكن يمكننا الاقتداءُ بأخلاقهِ الفاضلةِ على أملِ أنْ تشملنا شفاعتُه، ونحنُ وإن اختلفنا في تفسيرِ وفهمِ رسالتهِ السمحة، إلا أننا مُجمعون على محبتهِ الصادقةِ الخالصة، والمحبةُ نيةٌ كامنةٌ في القلب، والنوايا لا يراها إلا الله.
لكلِّ إنسانٍ أسرارٌ ومداخلُ خفيّة، إنْ كانَ ذا شخصيّةٍ معقّدة، ولكلِّ قضيّةٍ تحدّياتٌ وعقباتٌ، ما دامتْ من صنعِ البشر، إلّا شخصيّةَ محمدٍ بن عبداللهِ صلى الله عليه وسلم، وقضيّةَ النبوّةِ، فلا غموضَ ولا تعقيد، بل قمةُ الصفاءِ والبيان، وكأنَّ سيرةَ أشرفِ الخلقِ، والنبوّةَ تؤكدانِ على مرِّ الدهور، أنْ ليسَ هناكَ ما يختبئ.
في زمنٍ تكثرُ فيهِ مصاعبُ المسلمينَ من قِبَلِ الأحبابِ والأعداء على حدٍ سواء، تحلُّ ذكرى مولدِ خيرِ الأنامِ، وسيّدِ الخليقة، ولا يزالُ بعضُنا يضلُّ الطريقَ إلى منهلِ الصفاءِ، رغمَ قدرتنا على إقامةِ حوارٍ معرفيٍّ وحضاريٍّ بنّاء، مع الرسالةِ الخالدة، فهي حداثةٌ بالنظرِ إلى ما سبقها، ومعاصرةٌ بحكمِ زمنها، وأصالةٌ بالقياسِ إلى ما تبعَها، والانخراطُ في الحوارِ لا يعني الشكَّ في الرسالةِ والرسول، بل هو سعيٌ دؤوبٌ نحو الفهمِ العميقِ واستخلاصِ سبلِ النجاةِ ومخارجِ الأزمات، بدلاً من التسليمِ المطلقِ بما نُقلَ على ألسنةِ الرواة، ممّا يتعارضُ مع الوحيِ الصريحِ الجلي.
يجتمعُ ما يقاربُ المليارينِ من المسلمينَ، على رفعةِ قدرِ المصطفى ومكانتهِ العالية، الذي زكّى اللهُ قلبَه (ما كذب الفؤاد ما رأى)، وطهّر بصرَه (ما زاغ البصر وما طغى)، وصان لسانَه (وما ينطقُ عن الهوى)، وقدّس رسالته (إن هو إلا وحيٌّ يُوحى)، وشرّف واسطتَه (علّمه شديدُ القوى)، وعظّم خُلُقه (وإنّك لعلى خلق عظيم)، ورقّق مشاعره (حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)، ونقّى غاياته ومقاصدَه (لست عليهم بمسيطر)، فماذا يتبقى بعد هذا الكمال، سوى الاهتمام بالصفاتِ الحميدةِ والخصالِ النبيلة.
ليسَ المسلمُ الحقُّ، المنتسبُ لرسالةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، منقطعاً عن أمّتهِ، ولا منعزلاً عن إخوانِه، فالأمّةُ الإسلاميةُ جسدٌ واحد، ولكنّ الأيامَ كشفتْ لنا نوايا أولئك الذين يريدون تدمير الكلّ بتخريب الجزء، وتحطيم الكيانِ الكبيرِ بتفتيتِ الأوطان، فالإيمانُ عندما استقرَّ في قلوبِ أهلِ الجزيرةِ العربية، اشتدَّتْ عزيمتُهم، فاستقوى بهم كلُّ من تربطه جذورُ العروبةِ والإسلام بهم.
ذكرى ميلادِ النبيِّ الهادي، هي فرصةٌ سانحةٌ لمراجعةِ الذاتِ، وكبحِ جماحِ الشرِّ الكامنِ في نفوسِنا، وتهذيبِ سلوكِنا، وتجديدِ العهدِ بالرقيِّ والتقدمِ من خلالِ وطنِنا، الذي يحفزنا على أن نكونَ قدوةً حسنةً، وبشراً متحابين، ومبدعين ومنتجين، بدلاً من أن نكون مُستهلكين مُنغمسين في الشهواتِ والرغبات.
لم يُربِّ محمدُ بنُ عبداللهِ، عليهِ السلام، أصحابَه على رفعِ الراياتِ وترديدِ الشعاراتِ، وانتظارِ المكاسبِ والهباتِ، بل غرسَ فيهم حبَّ العملِ والإنجازِ، والإخلاصَ في الدعاءِ والابتهال، ولعلّنا ونحنُ ورثةُ لغتِه، نتساءلُ: ما الذي ينقصُنا لنثبتَ لأنفسِنا وللعالمِ أجمع أننا نحبُّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونقتفي أثرَه ونهتدي بهديه؟
منذُ بزوغِ فجرِ التاريخِ واللغة، كانت اللغةُ مدينةً ودائنةً في آنٍ واحد، لا سيما لغةُ الخطابِ الديني، فهي وسيلةٌ للإحياءِ والبناء، وفي الوقتِ ذاته، أداةٌ للقتلِ والدمار، وإذا كانت هناكَ نماذجُ تاريخيةٌ ارتقَتْ بالخطابِ الديني، وبأتباعِها، من خلالِ تفعيلِ وسيلةِ الإحياء، فهناك أيضاً جماعاتٌ انحدرتْ إلى الحضيضِ بتبنيها خطابَ الكراهية، الذي يرتكزُ على القتلِ والسبي والاستعباد والإبادة.
ليستِ الشريعةُ التي جاءَ بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (سُلطة) إلا بالمعنى المجازي، أو القضائي، بل هي عهدٌ وميثاقٌ وشهادةٌ كما وصفها القرآن الكريم (وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم)، وإذا وردَ في الأثرِ أنَّ (الملائكةَ تردُّ أقواماً عن الحوضِ، والنبيُّ عليهِ السلام يردد «أمتي أمتي» فتقولُ الملائكةُ: لا تدري ما أحدثوا بعدك)، فالإحداثُ ليسَ مقتصراً على معصيةٍ أو بدعةٍ مُغلّظةٍ أو تركِ سُنّةٍ مُختلفٍ في حكمِها، بل هو أيضاً استباحةُ دماءِ الأبرياءِ بتأويلٍ سائغٍ أو غيرِ سائغ، وإشعالُ الفتنِ في مجتمعٍ آمنٍ ومستقر، والتفريقُ بينَ الأهلِ والأحبة، والدعوةُ إلى عصيانِ ولاةِ الأمرِ والخروجِ عليهم، وهذا كلُّه نتاجُ التسلّطِ بالدينِ ظناً بأنه سُلطة، أو وسيلةٌ للوصولِ إلى السُّلطة، ولو تغاضينا عن هذا المصطلح، فالدِّينُ سُلطةٌ بالمحبةِ والإخاء، ولا يجوزُ عليهِ ولا منهُ أيُّ تسلّطٍ أو استغلال.
وإذا كان الدينُ (طيرٌ حرٌّ من اقتناه قنص به) فربما يصحُّ ذلك لفترةٍ محدودةٍ أو مدةٍ وجيزة، فالدولةُ الأقوى والأبقى هي التي تتبنى التحديثَ والتطوير، وتتخذُ من أحدثِ ما توصلَ إليه العلمُ والقانونُ والتحضر (نموذجاً) لتحصينِ نفسِها، في ظلِّ فهمٍ وإدراكٍ لأثرِ المصلحةِ وخطورةِ المفسدة، وبمراجعةِ السيرةِ النبويةِ الشريفة، نُدركُ النقلةَ النوعيةَ لرسالةِ الإسلامِ التي لم يستوعبها بعضُ أهلِ عصرِها، ففاتهم قطارُ الخيرِ والبركة.
لقد أشرقَ نورُ المصطفى عليهِ السلام، في زمنٍ كانَ أهلهُ بأمسِّ الحاجةِ إلى نبيٍّ يهديهم، وكانتِ القلوبُ متعطشةً إلى وحيٍ يُحييها، والمشاعرُ تتوقُ إلى التحررِ والانعتاقِ من قيودِ الجسدِ، والارتقاءِ بالروحِ إلى سماءِ الكمال، وكانَ المكانُ أجدبَ من ذاكرةٍ هرمة، وأفرغَ من فؤادِ أُمِّ موسى، فأنزلَ اللهُ الوحي، وحلّت بركةُ السماءِ على الأرض، وأعلى الله شأنَ مكانٍ وزمانٍ، كان الإنسانُ فيهما على وشكِ أن يفقدَ ما تبقى من إنسانيته، فاستعادَ ثقتَه بنفسِه، بهذا العطاءِ الإلهي، الذي أخرجهُ من ظلماتِ الجهلِ إلى نورِ المعرفة، ومن ضيقِ الشقاءِ إلى سعةِ الرخاء.
تبقى الذكرى مُذْكيةً لِشعلةِ الشوقِ والحنين، ولكنها وحدَها لن تعالجَ الأزمات، ولن تحلَّ المشكلات، ولن ترفعَ من مستوى الكفاءات، فالأزمةُ الحقيقيةُ تكمنُ في الوعي المتخلف، والمشاعرِ المظلمة، والأفكارِ المتصلّبة، ولا يمكنُ أن يبلغَ رسالةَ محمدٍ، ولا أن ينشرَ دينَه، إلا وطنٌ مستقرٌّ، ودولةٌ قويةٌ، ومجتمعٌ مقتدرٌ وخلوق، فاستجابةُ الآخرينَ لما نودُّ منهم أن يمثّلوه، مرهونةٌ بتمثّلِنا نحنُ لأخلاقِ النبوّةِ السامية وشمائلها الفاضلة.
لم يسلمْ مقامُ النبوةِ السامي وجنابُها الرفيع، من تطاولِ البعضِ على شخصِ الرسولِ الكريم، وعلى الكتابِ الذي جاءَ بهِ من عندِ الله، إلا أنَّ كلَّ ذلك، لم يزدهُ إلا رفعةً وعظمةً ومقاماً أعلى، فكيفَ لا وقد فتحتْ تلك الهجماتُ والاعتداءاتُ الأنظارَ على رسالتهِ السامية، وشدّت الانتباهَ إلى سيرتهِ العطرة، وأدخلتْ أمماً بأسرها في ركابِه ومعيّتهِ، فكم نحنُ محظوظونَ بأننا من أُمّتهِ المباركة.
لن يبلغَ المسلمُ مهما اجتهدَ في عبادتهِ، وإخلاصهِ، وتقواه، جزءاً يسيراً ممّا وصلَ إليهِ النبيُّ عليهِ السلام، ولكن يمكننا الاقتداءُ بأخلاقهِ الفاضلةِ على أملِ أنْ تشملنا شفاعتُه، ونحنُ وإن اختلفنا في تفسيرِ وفهمِ رسالتهِ السمحة، إلا أننا مُجمعون على محبتهِ الصادقةِ الخالصة، والمحبةُ نيةٌ كامنةٌ في القلب، والنوايا لا يراها إلا الله.
